امرأة فاضلة من يجدها ؟


Recommended Posts

الفصل الثاني من رواية "الشبيهة" للكاتبة السورية ماري رشو

امرأة فاضلة من يجدها ؟

لأن ثمنها يفوق اللآلئ !

ماري

ازدادت الهوّة عمقاً في بيت الجدّة، أصبحنا نعيش التكتّل، أبي وجدّتي، أمي ونحن الأبناء، أنا وسمر، صفاء وغسّان، لم نعد نجتمع في الصباح، أو على مائدة الطعام، وكأن قرار الأسرة النهائي قد أعطى أمي دفقاً جديداً، فنحت إلى الاستقلالية في أمورها، كأنها في عالم لاعلاقة لها به، ليست مسؤولة عن أمور البيت، أو عمّا يتعلّق بأبي، فتراقب عن بعد، قد تسدي نصيحة لنا أو تبدي رأياً، أو تلمح إلى وجبة طعام معينة، تنام وتنهض، تحتسي القهوة، تعتني بنفسها وهندامها. كانت أمورها الشخصية أهم من كل شيء، ابتداء من مظهرها الخارجي، تصفيف الشعر أو انتقاء الثوب، متجاهلة النظرات من حولها، فتتابع تقليم أظافرها، أو تضع الطلاء المناسب، وحين تستاء من تلميح أو إشارة يلقيها أحد منّا، تنهض باحثة عن سبب للّوم، تلامس مقعداً أو منضدة، وتعلّق على قذارة المكان، وعلى تعبها المهدور، فلايعينها أحد في هذا البيت الذي يستهلك وقتها وشبابها، ولا تجد فرصة للاهتمام بنفسها وحياتها، وتغتنم انهماك الجدة في عمل ما، لتشير إلى وجودها الذي يعيق حركتها أو يربكها، أو لتتحدّث عنها باشمئزاز.

كانت جدتي آنذاك تقارب الستين من العمر، نشيطة باستمرار، تتدفّق صحّة، تدخل المطبخ منذ الصباح، تهيء الطعام ومستلزمات البيت. لم نشعر نحن الأحفاد نحوها بعاطفة ما، قد يكون ذلك لنشأتنا بعيداً عنها، أو لكره أمي لها، لكنها كانت محبة، فترسم الابتسامة في كل الأحوال، أو تدندن لحناً لتشعرنا برضاها، وكان إن ظهرت بوادر ود بينها وبين غسان، تتدخّل أمي لتفسد علاقتهما، فقد انحصر تفكيرها بوجود الجدة التي هي – كما كانت تقول – دخيلة على الأسرة، فبوجودها يختل نظام البيت ويحدث التفكك. كانت أمي تسكب هذه الأفكار في رؤوسنا، فنصدّقها أحياناً، وفي أحيان أخرى نجدها بعيدة عن الحقيقة، خاصة حين نرى جدّتي تتفانى لإسعادنا متغاضية عن اتّهامات أمي المبطّنة والمكشوفة، لم تكن جدّتي غبية، وكانت تعبر أمام تعليقات أمي المزعجة ببرود، وتعمل دون توقّف، لاتكاد تنهي أمور المطبخ حتى تدخل الغرف، تجمع ثياب أبي وثيابنا، تفرز النظيف منها عن المتّسخة، ثم تمسح وتكنس دون شكوى، وفي أعماقها تمور شكاوى ولوم كثير، تيقنت من ذلك وأنا أرى دمعتها تسيل على خدّها، وتنساب إلى عنقها الذي بدأ يترهّل.

كان حبها لأبي يظهر منذ أن يدخل البيت منهكاً. اللعنة على هذا العمل الوضيع الذي لايتناسب وذكاء ابنها، فيرد عليها أنْ لابأس مادام الراتب مقبولاً، فهنالك من يحسده على عمله، ولاعيب في أن يعمل سائقاً لباص المدرسة. كان أبي يعمل بعد الدوام المدرسي سائق إجرة، فيغيب عن البيت كثيراً، وكم عاد منهكاً ليرتمي في سريره، فتعاتبه جدتي وهي تحمل له كوباً من العصير، وتجلس بمحاذاته، ويطول حديثهما عن تعب النهار وأحداثه.

تعوّدنا على تلك العلاقة بين أبي وجدتي، وكذلك على علاقته بأمي، ولم يدر في ذهن أحد منّا، لماذا لا ينامان في غرفة واحدة؟ أو لماذا لايتحادثان إلاّ قليلاً؟ قد يتحادثان في الضروريات، لكن بجفاء واضح، فيخرج أبي باكراً دون تحية أو سؤال.

أصبحت أمي مع الأيام تخرج أيضاً، وإذا تلازم ذلك مع موعد خروج أبي، لايسألها إلى أين أو متى ستعود؟ كأن ذلك لايهمّه، أما نحن فقد أرجعنا ذلك لوجود البديل المتمثّل بالجدة، التي استعاض بها عن كل شيء، وغذّت أمي ذلك في أذهاننا، فأصبحنا نرجع كل ما تقوم به الجدّة إلى محاولات مكشوفة لكسب مشاعر أبي، الذي أرادت امتلاكه وإبعاده عن أمي. في حين أصبح لأمي بعض الصديقات، وكنّ في بعض الأحيان يزرننا في البيت، بدت على أمي ملامح البشْر، فقد شغلت نفسها بمواضيع جديدة، كأن تبحث في أحدث الأزياء، أو أسماء ماركات عالمية، فتشعر بالتميز عن صديقاتها، وكنّ يتبارين بتعداد تلك الدور ومدى شهرتها، أو نسبة البيع والتوزيع فيها .

أصبحنا كل في واد، جدّتي تعمل في البيت رغبة لإرضاء أبي، وتحقيق الرضا لأمي التي ابتعدت عن أبي كثيراً، وأبي الذي ملأ وقته بالعمل، فيخرج منذ الصباح الباكر، ويعود لتناول طعام الغداء، ثم يخرج ثانية فلايعود إلاّ في آخر الليل، وأمي التي تعيش حياتها بعيدة عن عينيّ أبي، مفاخرة بصديقاتها، فهذه زوجة رجل هام، وهذه أخته، وهذا زوج أهم صديقاتها، وسمر التي ترفض الذهاب إلى المدرسة، وتحلم أن تكبر فجأة وتصبح أنثى، ولاتمانع بزوج يأتيها على حصان أبيض، وأنا المعجبة بسمر والمقتدية بها، أبكي كل صباح كي لاأذهب إلى المدرسة، لأنني أعرف القراءة والكتابة، ولم يستطع أحد في البيت إقناعي بالعدول عن عنادي. شدّ أبي أذني وصفعني أكثر من مرة، وأخذني معه بباص المدرسة، لكني أثبتّ أمام المعلمة التي تأسّفت بشدّة لتطفّلي على الصف والتلاميذ، وكانت تستغرب ذلك، فأنا ذكية وباستطاعتي - لو أردت- التفوّق.

كان أبي قاسياً في طريق العودة، وهو يعود بي محبطاً، فلن يسمح لي باتّخاذ قرار يعود عليّ بالضرر. سأعود إلى المدرسة اليوم أو غداً. كان مستغرباً من حديث المعلّمة عن ذكاء يعود على صاحبه بالجهل، فأنا جاهلة في حق نفسي، وعليّ الاستسلام لمشيئته دون تفكير. قلت بتردّد وخوف:

- أنا لاأحب المدرسة.. وأنا أعرف القراءة والكتابة.

- اصمتي.. هذا لايكفي.

غير أنه وفي أسابيع لاحقة، أعلنت المعلّمة عن وضعي الذي أصبح مزعجاً للتلاميذ، إذ أصبحت دخيلة على الصف، وأعادني ذلك اليوم محبطاً. بكيت في الطريق ووعدته بمتابعة الدراسة في البيت. كان غاضباً، وربما حلم بما يعيدني إلى رشدي، فقد سمعته يرجو أمي للتدخّل في هذا الأمر. كانت أمي تفهمني أكثر منه، فقد أشاحت بوجهها مردّدة بتهكّم:

- لاتخف.. سأزوّجها وتنجب أطفالاً، وتجعلك جدّاً.

كانت صفاء أكثرنا اهتماماً بالمدرسة، فهي تلتهم الكتب، تقرأ وتكتب وتردّد القصائد كل مساء، وربما تأثّر غسان بها، فكان يباريها في المحفوظات، وندهش من ذاكرته ومن مقدرته على الحفظ، برغم أنها تسبقه بعام دراسي، أما أنا وسمر فكنّا نتجاهل وجودهما بيننا، كانت لنا اهتمامات أخرى، أحببنا قراءة القصص المصوّرة، التي يأتينا بها غسان من مكتبة الحي، قصص حب وهيام، خيانة وغدر، لهفة واشتياق، فنتناوب القراءة، وكم استعدنا التفاصيل في الذاكرة، ولابد أن سمر قد عاشت الحلم والهوى كما كنت أفعل، نحلّق في أجواء غريبة. كنا عاطفيات، كأننا أردنا تعويض عاطفة حرمناها، فلاأذكر احتضان أمي لإحدانا، أو لهفتها لمعانقتنا، كنا نتحرّك، ننام نأكل نشرب، ولاننتظر شيئاً آخر، لانفكّر بشيء، نتشاجر أحياناً حول أمور تافهة، وأكثر ماكان يغيظ كل منّا أن تأخذ إحدانا مجلة قبل الأخرى.

أذكر كيف كنت أعايش أحداث القصص، وكأنني إحدى الشخصيات الهامة فيها، فقد أكون الحبيبة أو العشيقة، قد أكون الأم أو الابنة، أحزن وأفرح، وأشعر بالألم، وأروح في رحلة إثر أخرى، أتسلّق الشجر وأنزل الوديان، أكتفي بنسمة أو أسابق الريح، أمشي مع الغيم أو ألاحق القمر، أسمع زقزقة عصفور أو نقيق ضفدع، أجلس عند ساقية أو قرب نبع رقراق.

كانت تلك الأيام أجمل ماأذكره من ذلك العمر الذي بقي بين قوسين، لاعلاقة له بما سبق به، ولا بما سيأتي، أذكر الأعوام القليلة التي أضفت عليّ حب الحياة، وأنا في الثانية عشر من العمر أو أكثر بقليل، أنظر إلى كل أمر بعين طفلة، تترقّب الآتي دون وجل، تنتظره كحقّ لها، إنسان ينهض في وجه الأيام، مملوءاً بالتفاؤل المشبع بالطمأنينة.

لم يشغلني آنذاك أمر له علاقة بما يجري في بيتنا، أمي أو أبي أو جدّتي، فلكل منهم حياته، وكذلك لأخوتي، لم يكن لنا أنا وسمر صديقات، على عكس صفاء التي تذكر صديقاتها بود، أو غسان الذي يصف مشاجراته البسيطة مع رفاقه في الصف، في كل الأحوال أعرف الآن مدى الكسل الذي عشناه أنا وسمر، وربما كانت هي سبب تقاعسي، كنت أحب تقليدها والاقتداء بها، وكان بوسعي الانفراد بالعمل على آلة الحياكة، التي أحضرها أبي وجدّتي ذات يوم، لم أحب ذلك لأن سمر لم تحبّه، وحصر العمل بإنتاج قطع تخصّنا نحن، وتراجع حلم جدّتي في تحقيق علاقات مع الآخرين، أو بمردود يساعدنا في الإنفاق على خصوصياتنا.

هكذا مرّت بضع سنوات، ازداد خلالها الشقاق بين أمي وأبي، وانخرط كل في حياته المنفصلة ، بدا أبي أكبر سنّاً، وبدت أمي فتية نشطة، منطلقة في كل فعل، مستبشرة حين تتحرّك، فتتألق وهي تسرح شعرها، أو تنتقي أثوابها، أو حين تهم بالخروج، أو حين تعود إلى البيت.

لم يتبدّل شيء في البيت، كل شيء على ماهو، عدا أمي التي كانت -كما تقول- اجتماعية بطبعها، فكوّنت علاقاتها شيئاً فشيئاً، ولم يعد بيتنا فاتراً كما كان في أول مجيئنا، كثرت الحركة فيه، زارتنا صديقات أمي الجدد، وتعرّفنا إلى بعض خصوصيّاتهن، كما تعوّدنا على حياة تحمل الترقّب والانتظار يوماً إثر يوم.

دبّ الشجار بين جدّتي وأمي. وكنّا نستغرب موقف الجدّة من ضيوف أمي، وربما ساهمت في الحد من تلك الزيارات أكثر من مرة، على اعتبار أن البيت ملك لها، ولها حق التصرّف، كانت أمي معادية للجدّة، التي لم تستسلم ببساطة، وكانت تثير الشغب باستمرار، فتدخّل أبي الذي لايرغب بالسيطرة على أمي التي أهملها كزوج وقال:

- اتركي أمي وشأنها.. نحن في بيتها.

- هذا ذنبك ومسؤوليتك.

نظر إليها طويلاً وأدار ظهره لها

سمعت جدّتي ذلك المساء تذكر أقوالاً لها علاقة بالخطيئة والتوبة، وليس من أحد بعيد عنهما. كان أبي يستمع. أدار وجهه وكأنه يعترف بأن الأمور قد خرجت من يده، ولم تعد تقبل الإصلاح.

صدر للكاتبة:

1- وجه وأغنية قصص قوس قزح 1989

2- قوانين رهن القناعات قصص اتحاد الكتاب العرب 1991

3- هرولة فوق صقيع توليدو رواية دار الحصاد 1993

4- عند التلال-بين الزهور رواية دار الحوار 1995

5- الحب في ساعة غضب رواية دار الأهالي 1998

6- توليدو ثانية رواية مكتبة بالميرا للتوزيع 1998

7- أجمل النساء قصص اتحادالكتاب 2000

8- أول حب-آخر حب رواية دار الحوار 2001

9- الحب أولاً قصص وزارة الثقافة 2002

10- الدفلى رواية اتحاد الكتاب العرب 2002

11- الشبيهة رواية تصدر عن دار الحوار 2003

رابط هذا التعليق
شارك

حقـــــيقه ..

لم أقرأ هذا الموضـــوع ..

أنما اعتلانــــي الأعجــاب .. في هذا الجهــد والطرح الذي طالما تميزت به اخي الفاضل ..

طــــــرح .. ينم عن رقي ورفعه في مستوى الأختـــيار والذوق ...

الـــى المزيد ..

فنحن بأنتظـــار الكثير ..

فأنت قلم تميز بجميل بوحه ..

المسلهمــه ..

رابط هذا التعليق
شارك

من فضلك سجل دخول لتتمكن من التعليق

ستتمكن من اضافه تعليقات بعد التسجيل



سجل دخولك الان