××× ليبرالية العرب في الجاهلية ××× الشيخ ... إبراهيم بن محمد الحقيل حف


أبو طلاح

Recommended Posts

بسم الله الرحمن الرحيم

ليبرالية العرب في الجاهلية

الشيخ: إبراهيم بن محمد الحقيل

الاثنين 12/4/1433هـ

تقوم فكرة الليبرالية على الحرية، وكسر القيود التي تقيد الإنسان، دينية كانت أم أخلاقية أم عرفية، باعتبار أن الإنسان هو مركز الكون، وهو الذي يضع القيود التي تقيده، فيجب أن تكون القيود نابعة منه لا من غيره.

ولما كان لا بد من عيش الإنسان مع غيره كان اختيار القيود التي تقيد حرية الإنسان من مجموع الناس عن طريق اختيار ممثلين عنهم يتفقون على هذه القيود، وهو ما تقوم به المجالس التشريعية والبرلمانات في النظام الليبرالي، ولا ثبات لهذه القيود بل تغير بحسب رغبة الناس؛ إذ الأخلاق والقيم والمثل عندهم نسبية، وهي من صنع الإنسان، ويستطيع تغييرها، وهو ما عُبِّر عنه في القرآن بعبادة الهوى في قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23].

ومن قارن فكرة الحرية بمفهومها الغربي بما كان عليه حال أهل الجاهلية في جاهليتهم وجد أنهما متشابهتان إلى حد كبير، يصل إلى التماثل بينهما في كثير من التفصيلات، وأن التعددية التي يفاخر بها الغرب، ويدعو إليها الليبراليون السعوديون كانت موجودة عند مشركي العرب، وأن الحرية المطلقة من قيود الدين والأخلاق كان المشركون يمارسونها في مجالها الشخصي والفكري والديني والاقتصادي، ولا يضعون من القيود إلا ما تعارفوا عليه فاتفقوا أن يكون قيدا، وإلا فالأصل عندهم الانفلات والحرية.

ويتبين ذلك بعرض مجالات الحرية عند المشركين، ولن أتعرض في هذه الورقة للحرية السياسية عند العرب في جاهليتهم؛ لأن الليبراليين السعوديين لا يدعون إلى ليبرالية سياسية -وهي الديمقراطية- وإلا لما بقيت لهم صحفهم وفضائياتهم ونفوذهم، وهم أبعد الناس عن ممارستها ولو زعموا خلاف ذلك.

الحرية الشخصية عند المشركين:

الحرية الشخصية لها قيمة عالية في الفكر الغربي، وتقدم في كثير من الأحيان على حرية الرأي، والمشركون العرب كان عندهم قدر كبير من الحرية الشخصية، بل كانوا يعارضون التدخل في خصوصياتهم، ومن مظاهر حريتهم الشخصية عدم تحريم محرمات المآكل والمشارب والملابس، وإن كانت محرمة في بعض الأديان المحرفة كاليهودية والنصرانية، أو كانت محرمة فيما توارثوه من بقايا الحنيفية؛ ولذا كانوا يأكلون محرمات الطعام، ويشربون الخمر، ويلبسون الذهب والفضة.

يقول جواد علي: «وكان من أغنياء مكة من يأكل بصحاف من ذهب وفضة، ويشرب بآنية من ذهب وفضة ومن بلور، ويأكل على طريقة الروم والفرس بسكاكين وشوكات مصنوعة من ذهب أو من فضة, على حين كان أكثر أهل مكة فقراء لا يملكون شيئًا, وكانوا يلبسون الحرير، ويتحلون بالخواتم المصنوعة من الذهب، تزينها أحجار كريمة... وكان استعمال الأغنياء لآنية من الفضة والذهب في أكلهم وشربهم معروفًا بمكة» [المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 7/124و14/126].

وفي حريتهم الشخصية في المآكل والمشارب والملابس ونحوها لم يتقيدوا بقيود إلا حسب أعرافهم أو ما استقذروه، وأبين دليل على إطلاقهم الحرية الشخصية، وتمتعهم بها: قول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي لما سأله عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، قال يصفهم حالهم: «أَيُّهَا الْمَلِكُ كنا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ ونسيء الْجِوَارَ... وقال يحكي ما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم: وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحديث وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحاَرِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ... وقال يحكي حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم: فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ على ما جاء بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فلم نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَحَرَّمْنَا ما حُرِّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا ما أُحِلَّ لنا» [رواه أحمد: 1/202، وصححه ابن خزيمة (2260)].

فهذا الحديث يكشف حال أهل الجاهلية وما كانوا عليه من الحرية الشخصية في المآكل والمشارب والأفعال وإتيان الفواحش واستحلال المحرمات، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم بعبودية تقيدهم وتكفهم عن ذلك، وأن حالهم تغير بعد طاعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فصاروا يحرمون ما حرم عليهم، وهذا تقييد الحرية الشخصية بالدين وقد كانت مطلقة قبله.

ومن دلائل حريتهم الشخصية تمتعهم بأنواع اللحوم دون قيود، حتى نزل تقييد ذلك في قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]. فهذه الأطعمة كان أهل الجاهلية يستبيحونها فحرمها الله تعالى عليهم. [ينظر: تفسير الطبري: 9/495].

وكان من أهل الجاهلية من حرم على نفسه الخمر والأزلام ومنهم: عبد المطلب بن هاشم، وشيبة بن ربيعة بن عبد شمس المقتول ببدر، وعثمان بن عفان، وورقة بن نوفل، وقيس بن عاصم السعدي، وعبد الله بن جدعان، وجماعة غيرهم. [المحبر: 236-237].

وحرمها أيضا العباس بن مرداس السلمي، وقال: لا أشرب شرابا أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم، وكان سكر فجعل يساور القمر، فلما أصبح أخبر بذلك فحرمها. [الأشربة لابن قتيبة: 3].

وأول من حرم الخمر في الجاهلية الوليد بن المغيرة، وقيل: قيس بن عاصم، ثم جاء الإسلام بتقريره. [صبح الأعشى: 1/495].

والملاحظ في نظام أهل الجاهلية أن من حرم الخمر على نفسه لم يلزم بالتحريم غيره من الناس، ومن استباحها لم يلزم غيره بتعاطيها، بل لكل واحد حريته الشخصية في ذلك، وهو ما تدعو إليه الليبرالية المعاصرة.

وفيما يتعلق بالعلاقات الخاصة التي يفاخر الغرب بإتاحة الحرية فيها، وهي التي كانت سببا في انتشار الفواحش وما نجم عنها من أضرار صحية ومشاكل اجتماعية، وهي التي يستميت الليبراليون السعوديون في الوصول إليها كما هي في الغرب، وذلك بمحاولة إلغاء سلطة الشريعة على الناس، وفرض الاختلاط بقوة القرار الحكومي، وربط الاختلاط بأرزاق الناس حتى تلجئهم الحاجة إلى استساغته وقبوله؛ فإن المشركين كانوا يؤمنون بالحرية الشخصية، ويمارسون الزنا بل يفاخرون به، ولم تكن تمنع منه إلا المرأة الحرة، فتأنف هي منه، وتعاقب عليه لو وقعت فيه، وقد روي عن هند زوج أبي سفيان رضي الله عنهما قولها لما نزلت آية بيعة النساء وفيها قول الله تعالى: {وَلَا يَزْنِينَ} [الممتحنة: 12] قالت: وهل تزني الحرة؟! [تفسير الطبري: 28/78].

قال ابن عاشور: كان البغاء في الحرائر باختيارهن إياه للارتزاق... وكان في الإماء من يُلزمهن سادتهن عليه لاكتساب أجور بغائهن، فكما كانوا يتخذون الإماء للخدمة وللتسري كانوا يتخذون بعضهن للاكتساب، وكانوا يسمون أجرهن مهرًا كما جاء في حديث أبي مسعود أن رسول الله: نهى عن مهر البغي. [التحرير والتنوير: 18/270، والحديث الذي أورده رواه البخاري (5031)].

وقد كان الزنا معروفًا في الجاهلية يفعله الرجال علنًا؛ إذ لم يكن هذا النوع من الزنا محرمًا عندهم. وإذا ولد مولود من الزنا وألحقه الزاني بنفسه عدّ ابنًا شرعيًّا له، له الحقوق التي تكون للأبناء من الزواج المعقود بعقد، ولا يعد الزنا نقصًا بالنسبة للرجل ولا يعاب عليه؛ لأن الرجل رجل، ومن حق الرجال الاتصال بالنساء، وقد كانوا يفتخرون به... والزنا الذي يعاقب عليه الجاهليون هو زنا المرأة المحصنة من رجل غريب بغير علم زوجها، وهو خيانة وغدر. أما زنا الإماء، فلا يعدّ عيبًا إذا كان بعلم مالكهن وبأمره. [المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 10/232].

ويدل على انتشار الزنا فيهم، وتسخير الإماء لممارسته تحريمه في القرآن، قال الله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33]

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت. فلما جاء الإسلام نهى الله المسلمين عن ذلك. وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة -فيما ذكره غير واحد من المفسرين من السلف والخلف- في شأن عبد الله بن أبي بن سلول المنافق؛ فإنه كان له إماء، فكان يكرههن على البغاء؛ طلبا لخراجهن، ورغبة في أولادهن، ورئاسة منه فيما يزعم. [تفسير ابن كثير: 6/54]

وفي آية ما ينكح من النساء وما يحرم قال الله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25]. فالمسافحات: المعلنات بالزنا. والمتخذات أخدان: ذات الخليل الواحد. كانت المرأة تتخذ صديقا تزني معه، ولا تزني مع غيره. [زاد المسير: 1/394].

قال الحسن رحمه الله تعالى: المسافحة: هي امرأة كل من أوى إليها تبعته، وذات الخدن: هي أن تختص بصديق. [تفسير السمعاني: 1/416]

وهذا الفعل بشقيه المسافحة والمخادنة موجود في الحضارة الغربية المعاصرة، وتقره القوانين من باب الحرية الشخصية؛ فالمرأة الغربية تتخذ لها صديقا تخادنه ولا يمنعها القانون من ذلك، والمسافحة منتشرة في الغرب، وهو عملية منظمة يستصدر فيها لدور البغاء تصاريح، وتستجلب النساء للدعارة، ويرتادها من يريدها، وكل ذلك يتم تحت حق الحرية الشخصية، فمن حق المرأة أن تؤجر جسدها وهي حرة فيه، ومن حق من شاء أن يضاجعها إذا تراضى الطرفان، والقانون يحمي هذا الحق ويكفله للناس.

والفارق بين هذا العمل وعمل أهل الجاهلية أن البغي في الجاهلية مملوكة لسيدها، وتعمل لحسابه، بينما في الحضارة الغربية لا يملكها من يشغلها وإن عملت لحسابه وأعطاها أجرتها.

وأما مسألة الإكراه التي يراها المدافعون عن الحرية بمفهومها الغربي فرقا جوهريا بين ممارسة الغربيين وممارسة أهل الجاهلية، فالحقيقة أن معنى الإكراه موجود؛ لأن المجتمع الرأسمالي المتوحش الذي لا مكان فيه للرحمة هو الذي ألجأ البغايا إلى ممارسة هذه المهنة؛ فالفتاة في الغرب يجب أن تعتمد على نفسها عند سن معينة، ويتخلى عنها ذووها، وتواجه الحياة ومصاعبها وأراذل الرجال وحدها، فتضعف أمام المغريات، وتنكسر كرامتها مع إلحاح الحاجة، فتمتهن البغاء لسد حاجاتها، وإلا فمن التي ترضى أن تؤجر جسدها لمن لا تعرف من الرجال لقاء مبلغ من المال لولا الحاجة التي ألجأتها إلى ذلك. فمعنى الإكراه على البغاء موجود في الحضارة الغربية، ولكنه ليس إكراه أفراد بل إكراه مجتمع كامل بقسوته وقوانينه الجائرة.

وإذا كان كسب الزانية في الجاهلية يعود إلى مولاها ومن يملك رقبتها؛ لأنها مملوكة، والمملوك وما يملك ملك سيده؛ فإن كسب الزانية في الحضارة الغربية يعود لمن شغلها، ويعطيها أجرة على ذلك، كما أن السيد في الجاهلية يتولى سكنى وكسوة وإطعام أمته التي أجرها للزنا، فالحالان متشابهان جدا، وهذا يدل على ما كان يتمتع به أهل الجاهلية من الحرية الشخصية المطلقة من قيود الدين، وهي عين الحرية الشخصية الموجودة في الغرب الآن، وإن اختلفت مفردات التمتع بهذه الحرية، بحيث إن العرب في الجاهلية يستقبحون مثلا السحاق وعمل قوم لوط، والحضارة الغربية المعاصرة تجيزه وتشرعه من باب الحرية الشخصية.

صحيح أن هذه الحرية الشخصية يتمتع بها الرجال دون النساء؛ فالنساء كن مظلومات مضطهدات، بل كانت الزوجة إذا مات زوجها تورث كما يورث المال، فكرم الله تعالى المرأة ونهى عن أفعال أهل الجاهلية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] قال ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كَانُوا إذا مَاتَ الرَّجُلُ كان أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ إن شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لم يزوجوها فَهُمْ أَحَقُّ بها من أَهْلِهَا فَنَزَلَتْ هذه الْآيَةُ في ذلك. [رواه البخاري (4303)].

فالحرية الشخصية في الجاهلية كانت من حق الرجل دون المرأة، والغرب جعل الحرية الشخصية للمرأة كما هي للرجل، فاشتركا في منح الحرية الشخصية المطلقة من الدين وإن اختلفا فيمن يتمتع بها، وفي حين أن القيود على الحرية الشخصية كانت عند أهل الجاهلية تستقى من أعرافهم فإنها عند الحضارة الغربية تؤخذ من القانون الذي تقره المجالس التشريعية، والجامع بينهما أن مرجعها أهواء البشر، وتقديرهم للمصالح والمفاسد، ولا يسندها شرع عند كليهما.

وكان عند أهل الجاهلية أنواع من الأنكحة تدل على حرية شخصية واسعة في هذا الجانب، ومن تلكم الأنكحة:

1- نكاح المقت: وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه [تفسير القرطبي: 5/104].

ويسمّون فاعل ذلك: الضيزن، ويسمّون الابنَ من ذلك النكاح مَقيتا. [التحرير والتنوير: 4/293].

ولذا جاء القرآن بالنهي عنه والتشديد فيه؛ لأنه كان شائعا عندهم، قال الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22] فرغم مقت الجاهلية لهذا النوع من النكاح إلا أنهم لم يمنعوا منه، وهذا يدل على ما كان عندهم من حرية شخصية.

2- نكاح المتعة: وهو نكاح إلى أجل، فإذا انقضى وقعت الفرقة. وهذا النوع من الزواج كان معروفًا عند ظهور الإسلام.

ومن دوافع حدوث هذا الزواج التنقل والأسفار والحروب، حيث يضطر المرء إلى الاقتران بامرأة لأجل معين على صداق. فإذا انتهى الأجل انفسخ العقد. وعلى المرأة أن تعتدّ كما في أنواع الزواج الأخرى قبل أن يسمح لها بالاقتران بزوج آخر.

وينسب أولاد المتعة إلى أمهاتهم في الغالب، وذلك بسبب اتصالهم المباشر بالأم ولارتحال الأب عن الأم في الغالب إلى أماكن أخرى قد تكون نائية، فتنقطع الصلات بين الأب والأم؛ ولهذا يأخذ الأولاد نسب الأم ونسب عشيرتها.

وكان هذا النكاح مقرا في أول الإسلام؛ كما روى جَابِرِ بن عبد الله وَسَلَمَةَ بن الْأَكْوَعِ قالا: خَرَجَ عَلَيْنَا مُنَادِي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قد أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا يَعْنِي مُتْعَةَ النِّسَاءِ. [رواه مسلم (1405)].

ثم حرم بعد ذلك كما ورد أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قال لابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ. [رواه البخاري (4825)].

ونقل الجصاص رحمه الله تعالى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن المتعة فقال: ذلك السفاح، وقال عروة بن الزبير: كان نكاح المتعة بمنزلة الزنا. [أحكام القرآن: 3/96]

3- نكاح البدل: وهو أن يقول الرجل للرجل: انزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي، فهو زواج بطريق المبادلة بغير مهر.

وقد كان موجودا في الجاهلية، وذكره المفسرون في تفسير قول الله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52] قال ابن زيد رحمه الله تعالى: هذا شيء كانت العرب تفعله يقول أحدهم: خذ زوجتي وأعطني زوجتك. [تفسير القرطبي: 14/220].

وظاهرة تبادل الزوجات موجودة في الغرب إذا تراضى أطراف المبادلة، وهي من الحرية الشخصية، سواء كانت المبادلة دائمة أم زمنا مخصوصا.

4- نكاح الاستبضاع: وفسرته عائشة رضي الله عنها بقولها: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه... وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع. [رواه البخاري (4834)].

قال ابن عاشور: وفي الإسلام... بطل الاستبضاع؛ ولذلك تجد الزنا لا يقع إلاّ خفية؛ لأنّه مخالفة لقوانين الناس في نظامهم وأخلاقهم. [تفسير التحرير والتنوير: 4/269-270].

5- نكاح الرهط: وهو الذي فسرته عائشة رضي الله عنها بقولها: ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها. [رواه البخاري (4834)]

وهذا موجود في الغرب وهو من الحرية الشخصية، وشرطهم فيه رضا الأطراف.

6- صاحبات الرايات: فسرته عائشة رضي الله عنها بقولها: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها، وهن البغايا كن ينصبن رايات على أبوابهن يكن علما، فمن أرادهن دخل عليهن.

وليس في هذا الزواج صداق ولا خطبة على عادة العرب، ومن يفعله من الرجال لم يكن يقصد به زواجًا... وإنما التسلية وتحقيق شهوة بثمن، ولهذا فهو من أبواب الزنا والسفاح. [المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 10/212].

وهذا موجود في الغرب، وللبغايا علامات وأماكن معروفة عندهم يقصدهن من أرادهن.

فهذه الأنكحة الكثيرة والغريبة عند أهل الجاهلية تدل على ما كان سائدا عندهم من الحرية الشخصية، وما كانوا يتمتعون به من حرية جنسية واسعة، ليس ما يوجد في الغرب مما هو من مظاهر الحرية الشخصية والفوضى الجنسية إلا مماثلا لما كان عند أهل الجاهلية، وهو ما أبطله الإسلام كما قالت عائشة رضي الله عنها: فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح أهل الإسلام اليوم. [رواه البخاري (4834)].

ومن مظاهر الحرية الشخصية: التبني، وهو شائع في الغرب، فمن لم يولد لهم يتبنون من اللقطاء ما شاءوا، وكذلك من كان عندهم أولاد انصرفوا عنهم أو بقوا معهم يتبنون كذلك ما شاءوا. أو يشترون طفلا من أسرة فقيرة ويتبنونه، وتهريب الأطفال من الدول الفقيرة إلى الغنية تجارة رائجة.

وقد جاء إقرار التبني والاعتراف به في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 41/85 المؤرخ في 3 ديسمبر 1986: إن الجمعية العامة بعد الإشارة إلى إعلان حقوق الطفل الذي أصدرته بقرارها 1386 (د-14) المؤرخ في 20 نوفمبر 1959، وخصصت له خمس مواد من حقوق الطفل. [حقوق الإنسان: مجموعة صكوك دولية، الأمم المتحدة، نيويورك، 1993: 1/272]

وفي تقرير للأمم المتحدة الخاص بسكان العالم ذكر فيه أن أمريكا بها نصف حالات التبني على مستوى العالم. وحسب التقرير فإن عدد حالات التبني في ارتفاع مستمر منذ أعوام، وأن عدد حالات التبني يبلغ نحو (260 ألف) سنويا على مستوى العالم. [صحيفة الاقتصادية السعودية: 17/5/1431 هـ. عدد: 6046]

والتبني كان جائزا في الجاهلية كذلك، ومنتشرا في أهلها، فأبطله الإسلام، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 4-5]

قال أبو جعفر النحاس: كان هذا ناسخا لما كانوا عليه من التبني، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة، فنسخ التبني، وأمر أن يدعوا من دعوا إلى أبيه المعروف، فإن لم يكن له أب معروف نسبه إلى ولائه المعروف، فإن لم يكن له ولاء معروف قال: بأخي، يعني في الدين قال الله عز وجل: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ثم ساق النحاس بسنده إلى ابن عمر عن زيد بن حارثة رضي الله عنهم قال: ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزلت {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ}. [الناسخ والمنسوخ: 626]

قال جواد علي: وقد اعترفت شريعة الجاهليين بالتبني، فيجوز لأي شخص كان أن يتبنى، ويكون للمُتبنى الحقوق الطبيعية الموروثة المعترف بها للأبناء. ويكون بهذا التبني فردًا في العائلة التي تبنته، له حق الانتماء والانتساب إليها. وهو يتم بالاتفاق والتراضي مع والد الطفل أو ولي أمره أو صاحبه، ومالكه، وذلك بالنزول عن كل حق له فيه، ومتى تمّ ذلك وحصل التراضي، يعلن المتبني عن تبنيه للطفل وإلحاقه به، فيكون عندئذ في منزلة ولده الصحيح في كل الحقوق... وقع التبني مع وجود أولاد للمتبني، وليست له حدود من جهة العمر. [المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 10/231]

وهذا النظام في التبني عند أهل الجاهلية هو عين ما عند الغرب في التبني، وهو من الحرية الشخصية ما دامت أطراف التبني راضية، إلا الطفل فلا خيار له.

ومن مظاهر الحرية الشخصية عند الغرب: الحرية في الوصية، فللشخص أن يوصي بماله لمن شاء، وله أن يحرم الورثة منه، بل له أن يحرم أولاده ويوصي لقططه وكلابه؛ ولذا تكثر الوصية عندهم بالأموال الطائلة على كلاب وقطط ونحوها، وعلى رعاية الحيوان في الجملة، رغم أن أناسا يعانون الفقر وربما الجوع في نفس البلاد الغربية التي تجيز مثل هذه الوصايا، بل ربما كان في أسرة الموصي للقطط والكلاب من هو فقير من أولاده وعصبته وسائر أقربائه، لكن مقتضى ملكية الإنسان للمال، وحرية التصرف فيه تتيح له من باب الحرية الشخصية أن يهبه لمن يشاء ويمنعه من يشاء.

وذﻛﺮت صحيفة نيويورك تايمز أن الثرية الأمريكية (ليونا هلمسلي) وهي تملك عقارات ضخمة وفنادق في أمريكا تقدر بالمليارات قد أوصت بالملايين لكلبها اﻟﻤﺤﺒﻮب لديها (ﺗﺮاﺑﻞ) وأوصت بثمانية مليارات دولار لرعاية الكلاب ﻋﻤﻮﻣﺎ ورفاهيتها. وكانت قد حددت مصرفين لثروتها كلها: الأول: ﻣﺴﺎﻋﺪة اﻟﺴﻜﺎن الأصليين، واﻟﺜﺎﻧﻲ: توفير الرعاية والرفاهية للكلاب، لكنها أﻟﻐﺖ المصرف اﻷول وهو مساعدة البشر وأبقت على الثاني. [صحيفة الوطن السعودية: 20/5/1431 عدد: 3504]

وكذلك أهل الجاهلية كانت حريتهم الشخصية تتيح لهم الوصية بأموالهم لمن شاءوا، ولم يكن صاحب الوصية مقيدًا بقيود بالنسبة لكيفية توزيع ثروته؛ لأن المال ملك صاحبه وله أن يتصرف به كيف يشاء. ويجوز للموصي إن شاء حرمان من يشاء من الورثة الشرعيين من إرثهم، وإشراك من يشاء في الإرث. وله أن يوصي بإعطاء كل إرثه إلى شخص واحد، وأن يحرم من الإرث كل المستحقين الشرعيين. [المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 10/233]

وأسباب الميراث عند أهل الجاهلية: النسب والتبني والموالاة، والقاعدة العامة في الميراث عند الجاهليين هو أن يكون الإرث خاصًّا بالذكور الكبار دون الإناث، على أن يكونوا ممن يركب الفرس ويحمل السيف، أي: المحارب. [المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 10/234]

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته. [تفسير ابن كثير: 3/39]

والظاهر أن هذا كان في أغلبهم، ولكن كان منهم أناس يورثون البنات، قال ابن حبيب البغدادي رحمه الله تعالى: وكانت العرب مُتفقة على توريث البنين دون البنات، فورث ذو المجاسد وهو عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر ماله لولده في الجاهلية للذكر مثل حظ الأنثيين، فوافق حكم الإسلام. [المحبر: 236-237]

وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: وهو أول من أعطى الذكر حظين والأنثى حظًا. [جمهرة أنساب العرب: 2/308]

وهذا التنوع عند الجاهلية بحرمان كثير منهم النساء من الميراث، وتوريث بعضهم النساء، بل وقدرتهم على الوصية بأموالهم لغير ورثتهم مع حرمان ورثتهم، كل هذه التعددية في الميراث والوصية تدل على ما كانوا يتمتعون به من حرية شخصية فيما يملكون من أموال.

وقد تنزل القرآن بالحد من هذه الحرية وتقييدها، وتولى الله تعالى قسمة المواريث وتحديدها في سورة النساء، ومنع سبحانه المورث من الوصية بكل ماله أو التبرع به وحرمان الورثة منه، أو تخصيص بعض الورثة بوصية ليكون حظه من الميراث أكثر من غيره.

الحرية الدينية عند المشركين:

يفاخر الغرب بأن قوانينه وإعلانات حقوق الإنسان التي أصدرها وعممها على البشر تكفل حرية تدين الإنسان، ويكثر في كلام الليبراليين السعوديين الذين هاموا على وجوههم في الفكر الغربي وقيمه، وكرعوا منه حتى الثمالة التباهي بأن الغرب حفظ حق التدين لكل الأجناس والديانات بلا تفريق، ومع ما في هذا الإطلاق من مجازفة، وخاصة مع الإسلام؛ فإن الحقيقة التي يغفل عنها كثير من الناس هي أن حرية التدين كانت تطبق عند المشركين على أوسع نطاق، وأن التعددية الدينية عند العرب في جاهليتهم لا مثيل لها، حتى إنهم سعروا حروبا من أجل ناقة البسوس لما عقرت، وحروبا أخرى في خيل سبقت وهي حروب داحس والغبراء، وغيرها من الحروب التي كثيرا ما تكون أسبابها تافهة، ولم أقف على تسعيرهم لحرب واحدة بسبب الدين، رغم كثرة حروبهم، حتى أفردها أبو الفرج الأصبهاني بكتاب اسمه (أيام العرب) عدّ فيه من أيامهم ألفا وسبع مئة يوم [تاريخ بغداد: 11/398 والمنتظم: 14/185].

وهذا يدل على تسامحهم في مسألة الدين، وخلوهم من التعصب الديني، وأنهم مارسوا التعددية في أظهر صورها.

وأدلة الحرية الدينية والتعددية عند المشركين كثيرة، منها:

أولا: انقسام العرب بين الأديان؛ فكانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة، وكانت اليهوديه في حمير وفي كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة، وكانت المجوسية في تميم، منهم زرارة بن عدس التميمي وابنه حاجب بن زرارة وكان تزوج ابنته ثم ندم، ومنهم الأقرع بن حابس وكان مجوسيا، وأبو سود جد وكيع بن حسان كان مجوسيا، وكانت الزندقة في قريش أخذوها من الحيرة، وكان بنو حنيفة اتخذوا في الجاهلية إلها من حيس فعبدوه دهرا طويلا ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه فقال رجل يعيرهم:

أكلت حنيفه ربها زمن التقحم والمجاعه

لم يحذروا من ربهم سوء العواقب والتباعه [المعارف: 621]

وهذا يدل على ما كان يتمتع به أهل الجاهلية من التعددية، وهي التي حاربها النبي صلى الله عليه وسلم، وقسرهم على معبود واحد هو الله تعالى، وعلى دين واحد وهو دين الإسلام، وعلى منهج واحد وهو شريعة الإسلام؛ ولذا استعظم المشركون أن يلغي النبي صلى الله عليه وسلم حريتهم الدينية، ويبطل ما تمتعوا به من التعددية ليقصرهم على ما جاء به {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 4-5].

فالتعددية التي ينادي بها الغرب، ويصيح بها أتباع الغرب كان أهل الجاهلية يدعون إليها، ويمارسونها، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليبطلها.

ثانيا: أن قوما من العرب رفضوا الشرك وعبادة الأوثان، وبقوا على ما توارثوا من الحنيفية، ولم ينقل أن المشركين آذوهم أو عذبوهم أو قهروهم على ما اختاروا، بل تركوهم وما يدينون ما داموا لم يلزموا غيرهم بما اختاروا، وهذا عين ما تقرره الليبرالية.

قال عالم السير ابن إسحاق: كان نفر من قريش: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وعبيد الله بن جحش بن رئاب... حضروا قريشا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم، فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض وقالوا: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فقال قائلهم: تعلمون والله ما قومكم على شيء، لقد أخطئوا دين إبراهيم عليه السلام وخالفوه، ما وثن يعبد لا يضر ولا ينفع؟! فابتغوا لأنفسكم. فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب من اليهود والنصارى والملل كلها الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، فأما ورقة بن نوفل فتنصر فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علما كثيرا من أهل الكتاب، فلم يكن فيهم أعدل أمرا ولا أعدل شأنا من زيد بن عمرو بن نفيل اعتزل الأوثان وفارق الأديان من اليهود والنصارى والملل كلها إلا دين إبراهيم يوحد الله عز وجل ويخلع من دونه، ولا يأكل ذبائح قومه بادأهم بالفراق لما هم فيه. [سيرة ابن إسحاق: 2/95].

وفي أخبار حنيفية زيد رحمه الله تعالى روت أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، وَالله مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، وَكَانَ يُحْيِي المَوْءُودَةَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لاَ تَقْتُلْهَا، أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا. [رواه البخاري معلقا مجزوما به (84)]

وله رحمه الله تعالى شعر تبرأ فيه من الأصنام، قال فيه:

تركت اللات والعزى جميعا كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا العزى أدين ولا ابنتيها ولا صنمي بني غنم أزور

ولا هبلا أزور وكان ربا لنا في الدهر إذ حلمي صغير [الأصنام للكلبي: 22]

وكان زيد يمتنع عن أكل الذبائح التي يذبحونها لأصنامهم، وما كانوا يجبرونه على الأكل منها؛ كما في حديث عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَقِيَ زَيْدَ بن عَمْرِو بن نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ قبل أَنْ يَنْزِلَ على النبي صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ فَقُدِّمَتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم سُفْرَةٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ منها ثُمَّ قال زَيْدٌ: إني لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ على أَنْصَابِكُمْ، ولا آكُلُ إلا ما ذُكِرَ اسْمُ الله عليه، وَأَنَّ زَيْدَ بن عَمْرٍو كان يَعِيبُ على قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا الله، وَأَنْزَلَ لها من السَّمَاءِ الْمَاءَ، وَأَنْبَتَ لها من الأرض، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا على غَيْرِ اسْمِ الله إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا له. [رواه البخاري(3614)]

وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى زيد بن حارثة عن التمسح بالأصنام قبل أن يبعث، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته نبيا رسولا لم يكن موافقا للمشركين في تعظيمهم للأصنام وعبادتها، ومع ذلك لم يكن المشركون يعادونه قبل الدعوة، بل كانوا يجلونه ويوقرونه، ويحكمونه بينهم كما في قصة بناء الكعبة، وكانوا يستودعونه أماناتهم، ولقبوه بالأمين.

روى زيد بن حارثة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مردفي إلى نصب من الأنصار فذبحنا له شاة ثم صنعناها في الأرة حتى إذا نضجت استخرجناها فجعلناها في سفرة، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسير مردفي في يوم حار من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادي لقيه زيد بن عمرو بن نفيل فحيا أحدهما الآخر بتحية الجاهلية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا ابن عم، ما لي أرى قومك قد شنفوك؟)) أي: أبغضوك، فقال: أما والله إن ذاك لغير ثائرة كانت مني فيهم، ولكني كنت أراهم على ضلال، فخرجت أبتغي هذا الدين، فأتيت على أحبار يثرب فوجدتهم يعبدون الله عز وجل ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبغي، فخرجت حتى أتيت أحبار خيبر فوجدتهم يعبدون الله عز وجل ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبغي، فخرجت حتى أتيت أحبار الشام فوجدتهم يعبدون الله عز وجل ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبغي، فقال لي حبر من أحبار الشام: إنك لتسأل عن دين ما نعلم أحدا يعبد الله تعالى به إلا شيخا بالجزيرة، فخرجت فقدمت عليه فأخبرته بالذي خرجت له، فقال لي: إن كل من رأيت على ضلالة فمن أنت؟ قلت: أنا من أهل بيت الله تعالى ومن الشوك والقرظ، قال: فإنه قد خرج في بلدك نبي أو هو خارج قد خرج نجمه فارجع فاقصده واتبعه وآمن به، فرحلت فلم أخبر بشيء، فقدّمنا إليه السفرة فقال: ما هذا؟ فقلنا: ذبحناها لنصب من الأنصاب، قال زيد رضي الله عنه: ما آكل شيئا ذبح لغير الله تعالى، فتفرقنا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت، قال زيد بن حارثة رضي الله عنه: وأنا معه، وكان صنم من نحاس يقال له إساف ونائلة مستقبل القبلة يتمسح بهما الناس إذا طافوا بالبيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تمسهما ولا تسمح بهما))، قال زيد: فقلت في نفسي: لأمسهما حتى أنظر ما يقول، فمسستهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألم تنه؟!))، فلا والذي أكرمه ما مسستهما حتى أنزل الله عز وجل عليه الكتاب. [رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني: (257)، وصححه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه: 3/238، وصححه ابن تيمية في الجواب الصحيح: 5/167]

فهذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على دين قومه في تعظيمهم للأصنام، ويدل على أن قريشا أبغضوا زيد بن عمرو؛ لأنه صرح بضلالهم، والظاهر أنه أنكر عليهم عبادتهم للأصنام، ونهاهم عن ذلك، فناله منهم أذى بسبب إنكاره لا بسبب عبادته. ومما يدل على ذلك قول زيد في شعره:

سبحانه ثم سبحانا يعود له فقبلنا سبح الجودي والجمد

لا تعبدن إلها غير خالقكم وإن دعيتم فقولوا دونه حدد [أمثال الحديث للرامهرمزي : 15].

ثالثا: أن من المشركين من كان يؤمن بالبعث والنشور، مع أن عامتهم لا يؤمنون بذلك، ولم ينقل أن من لم يؤمن به كان يؤذي من يؤمن به ويقهره على إنكاره، بل كان كل واحد حرّا فيما يعتقد ويدين به على غرار ما تقرره الليبرالية الغربية، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5]

قال البغوي رحمه الله تعالى: وكان المشركون ينكرون البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله تعالى، وقد تقرر في القلوب أن الإعادة أهون من الابتداء، فهذا موضع العجب. [تفسير البغوي: 4/295]

والآيات الدالة على أن المشركين كانوا ينكرون البعث والنشور كثيرة في القرآن الكريم، مما يدل على أن هذا القول منتشر فيهم، ويمثل عقيدة في المجتمع الجاهلي، وبسبب تقرير النبي صلى الله عليه وسلم للبعث والنشور في أوساطهم رموه بالجنون أو بالكذب، مما يدل على شدة تكذيبهم بالبعث، واستقرار ذلك عندهم، وانتشاره فيهم، قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ فِي العَذَابِ وَالضَّلَالِ البَعِيدِ} [سبأ: 7-8].

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا إخبار من الله عن استبعاد الكفرة الملحدين قيام الساعة، واستهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم في إخباره بذلك. [تفسير ابن كثير: 6/496]

ومع كل هذا التكذيب واستبعاد البعث والنشور، والسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخبرهم به؛ فإن من المشركين من كان يؤمن بالبعث والنشور، ولم ينلهم أي أذى، بل كفلت لهم حرية الفكر والمعتقد.

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وممن كان يقر بالخالق والابتداء والإعادة والثواب والعقاب: عبد المطلب بن هاشم، وزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وعامر بن الظرب، وكان عبد المطلب إذا رأى ظالما لم تصبه عقوبة قال: تالله أن وراء هذه الدار لدارا يجزي فيها المحسن والمسيء. [تلبيس إبليس: 80]

ومنهم زهير بن أبي سلمى الشاعر، وهو القائل:

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم [جمهرة أشعار العرب: 92]

وكان زهير يمر بالعضاة وقد أورقت بعد يبس فيقول: لولا أن تسبني العرب لآمنت أن الذي أحياك بعد يبس سيحيي العظام وهي رميم. [الملل والنحل: 2/243-244]

فهو صرح هنا بأنه يخاف من المسبة ليس إلا، والمسبة قد تندرج تحت حرية التعبير والنقد بحسب لفظها، وقد تعد تجريحا وتشهيرا، لكن الملاحظ أنه لم يخش شيئا غير المسبة مما يدل على مساحة واسعة من حرية الفكر والمعتقد عند المشركين.

ومن هؤلاء النابغة الذبياني آمن بيوم الحساب فقال:

مجلتهم ذات الإله ودينهم قويم فما يرجون غير العواقب

وأراد بذلك الجزاء بالأعمال. [الملل والنحل: 2 /243]

ومنهم قس بن ساعدة قال في موعظة له: مطرٌ ونبات، وآباءٌ وأُمهات، وذاهب وآت، وآيات في إثْر آيات، وأموات بعد أموات، وسعيد وشقي، ومحسن ومسيء، أين الأربابُ الفَعَلَةُ؟ إنّ لكل عامل عَمَلَهُ. بل هو والله واحد، ليس بمولود ولا والد، وإليه المآب غدا. أمّا بعدُ، يا معشر إياد، فأين ثمودُ وعادُ؟ وأين الآباء والأجداد؟ أين الحَسَنُ الذي لم يُشْكَرْ، والظلمُ الذي لم يُنْكَرْ؟ كلاَّ وربِّ الكعبة، ليعودَنَّ ما بادَ، ولئن ذهب يومًا ليعودَنَّ يوما ما. [الزاهر في معاني كلمات الناس: 2/353]

ومنهم علاف بن شهاب التميمي كان يؤمن بالله وبيوم الحساب وفيه قال:

ولقد شهدت الخصم يوم رفاعة فأخذت منه خطة المقتال

وعلمت أن الله جاز عبده يوم الحساب بأحسن الأعمال [المحبر: 322]

فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك فلم عادى المشركون النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءهم بالتوحيد؟!

فالجواب: أن المشركين كانوا يقرون بحرية الدين وممارسة شعائره، لكنهم يعادون من ينهاهم عما يعبدون، ويأمرهم بما يعبد هو، وقد تكون العداوة مجرد سب وشتم وهجاء إذا لم يؤثر الداعي في الناس؛ كما وقع لزهير بن أبي سلمى فإنه ذكر سبب عدم صدعه بعقيدة البعث خوف المسبة، وقد تصل إلى حد المقاطعة؛ كما وقع لأمية بن عوف القلمس؛ إذ كان يقوم بفناء البيت ويخطب العرب، وكانت العرب لا تصدر حتى يخطبها ويوصيها، فقال: يا معشر العرب، أطيعوني ترشدوا. قالوا: وما ذاك؟ قال: إنكم قوم تفرَّدتم بآلهة شتى، وإني لأعلم ما الله بكل هذا براض، وإن كان ربَّ هذه الآلهة إنه ليحبّ أن يعبد وحده. فنفرت العرب عنه ذلك العام، ولم يسمعوا له موعظة. فلما حجّ من قابل اجتمعوا إليه، وهم مزورون عنه، فقال: مالكم -أيها الناس- كأنكم تخشون مثل مقالتي عاما أول، إني والله لو كان الله تعالى أمرني بما قلت لكم ما أعتبتكم ولا استعتبت، ولكنه رأي مني، فإذا أبيتم فأنتم أبصر. [المعمرون والوصايا: 35]

فهذا يدل على أنهم قاطعوا مواعظه واكتفوا بذلك ليعود إليهم، فعاد إليهم في العام القابل معتذرا بأن ما قاله مجرد رأي رآه، وهذا يندرج تحت حرية التعبير وتركه لأجلهم.

فإن كان لمن ينكر عليهم تأثير على الناس بحيث كثر أتباعه، والتزموا أمره ونهيه، وكان مع ذلك يسفه آلهتهم؛ فإنه حينئذ يشكل خطرا على نفوذهم وسلطتهم على من هم تحتهم من جهة، وعلى الحرية التي ارتضوها من جهة أخرى، ووقع شيء من ذلك لزيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله تعالى، قال جواد علي: فهو -أي زيد- من أولئك الرهط الثائرين على قومهم، والذين أدركوا أيام الرسول. وقد نسبوا إليه شعرًا في تسفيه عبادة قومه، وفي فراقه دينهم وما لقيه منهم. وكان قد أوذي لمقالته هذه في دين قومه، حتى أُكره على ترك مكة والنزول بحراء، وكان الخطاب بن نفيل عمه، وقد وكل به شبابًا من شباب قريش وسفهاء من سفهائهم كلفهم ألا يسمحوا له بدخول البلدة وبمنعه من الاتصال بأهلها؛ مخافة أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراق ما هم عليه. واضطر زيد إلى المعيشة في هذا المحل، معتزلًا قومه إلا فترات، كان يهرب خلالها سرًا، ليذهب إلى موطنه ومسكنه، فكانوا إذا أحسوا بوجوده هناك آلموه وآذوه. [المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 12/46]

وذكر ابن حبيب البغدادي أن زيدًا رحمه الله تعالى هو أول من عاب على قريش ما هم عليه من عبادة الأوثان. [المحبر: 172]

ولو أن زيدا لم ينكر عليهم، ويسفه آلهتهم لما آذوه، ولتركوا له حرية المعتقد وممارسة الشعائر كما لم يؤذوا غيره من الحنفاء وغيرهم ممن كانوا مفارقين لهم في دينهم وشعائرهم.

رابعًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعبد بغار حراء قبل بعثته، حتى نزل عليه الوحي وهو فيه، ولم ينقل أن المشركين منعوه من عبادته تلك، أو آذوه بسببها، أو انتقدوه بها، مع أن فيها مفارقة لما يعبدون، وخلوة بالله تعالى.

قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: كان أَوَّلَ ما بُدِئَ بِهِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إليه الْخَلَاءُ فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فيه اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قبل أَنْ يَرْجِعَ إلى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا [رواه البخاري (4670)]

فدل الحديث على أن خلوته كان فيها مفارقة لقومه وما يعبدون، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يتعبد عبادة تخصه، ونقل الحافظ ابن حجر الخلاف في تعبده هل كان بشريعة سابقة؟ وبشريعة مَن مِن الأنبياء عليهم السلام، وقوّى أنه كان يتعبد بما بلغه من شريعة إبراهيم عليه السلام، قال رحمه الله تعالى: ولا سيما مع ما نقل من ملازمته للحج والطواف ونحو ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم. [فتح الباري: 8 /717]

خامسًا: أن التحول عن الدين إلى دين آخر كان مشهورًا عند أهل الجاهلية ولم يؤذوا من تحولوا من دينهم إلى دين آخر أو ينكروا ذلك عليهم، وممن تحول عن الشرك إلى النصرانية حنظلة بن أبي عفراء الطائي، وهو عم إياس بن قبيصة الذي كان ملك الحيرة، تنصر وبنى ديرا سمي دير حنظلة الطائي. [الديارات: 8]

قال البكري: وكان من شعراء الجاهلية ثم تنصر وفارق بلاد قومه ونزل الجزيرة مع النصارى حتى فقه دينهم وبلغ نهايته وابتاع ما له وبنى هذا الدير وترهب فيه حتى مات. [معجم ما استعجم: 2/576]

وممن تنصر أيضًا داود بن هُبالة، وكان أول ملك للعرب في بلاد الشام، فغلبه ملك الروم على ملكه، فصالحه داود على أن يقره في منازله ويدعه فيكون تحت يده، ففعل، ثم تنصر وكره الدماء وبنى ديرًا سمي (دير اللثق) وأنزله الرهبان. [المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 18/ 19]

واستعرض اليعقوبي حركة تغير الدين في العرب فقال: وكانت العرب في أديانهم على صنفين: الحمس والحلة، فأما الحمس فقريش كلها، وأما الحلة فخزاعة لنزولها مكة ومجاورتها قريشا... فهاتان الشريعتان اللتان كانت العرب عليهما، ثم دخل قوم من العرب في دين اليهود وفارقوا هذا الدين، ودخل آخرون في النصرانية، وتزندق منهم قوم فقالوا بالثنوية، فأما من تهود منهم فاليمن بأسرها، كان تُبَّعٌ حمل حبرين من أحبار اليهود إلى اليمن فأبطل الأوثان وتهود من باليمن وتهود قوم من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب، وقوم من غسان، وقوم من جذام. وأما من تنصر من أحياء العرب فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى منهم عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وورقة بن نوفل ابن أسد، ومن بني تميم بنو امرئ القيس بن زيد مناة، ومن ربيعة بنو تغلب، ومن اليمن طيء ومذحج وبهراء وسليح وتنوخ وغسان ولخم وتزندق حجر بن عمرو الكندي. [تاريخ اليعقوبي: 1/256-257. وقال الكلبي في كتاب الأصنام: وتهود تبع وأهل اليمن: 12]

الحرية الاقتصادية عند المشركين:

يفاخر أرباب الحضارة الغربية والمسوقون لهم من الليبراليين السعوديين بأن من ميزات هذه الحضارة إقرار الحرية الاقتصادية، وتحرير التجارة، وعدم المنع من أي نشاط تجاري إلا ما منعه القانون كالاتجار في المخدرات؛ لأن الأصل عندهم أن الإنسان مركز الكون وهو يضع من القوانين ما يناسبه، وهو مالك المال، وهو حر في تشغيله بالطريقة التي يريدها وفق القانون، ويمكن القول إن أبرز مظاهر الحرية الاقتصادية في الغرب تعود إلى ثلاثة أمور:

الأول: تخفيف القيود على التجارة في نوع البيع وصيغته، فما دام البيعان متراضيين فالرضا شريعة المتعاقدين. وتخفيف القيود على المبيع فالاتجار بكل شيء تجيزه القوانين، إلا الممنوعات قانونا كالمخدرات ونحوها.

الثاني: التعامل بالربا، واعتماده أساسا في الاقتصاد.

الثالث: إباحة القمار بكل أنواعه، والاعتراف به مجالا من مجالات الكسب.

والحقيقة أن كل هذه الثلاثة كانت موجودة عند العرب في الجاهلية:

1- ففيما يتعلق بتخفيف القيود على التجارة في نوع البيع، فالظاهر من حال المشركين أن التراضي هو الأساس.

«فالبيع والشراء، إما أن يكونا بشروط يشترطها أحدهما أو كلاهما عند عقد الصفقة، ويتم التوافق والتعاقد عليها برضا البائع والمشتري، أي: الطرفين, وإما ألا يكونا بشروط». [المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 14/75]

ولذا كثرت عندهم البيوع المبنية على الحظ والغرر، وأجازوها وتعاملوا بها، ومنها: بيع الحصاة، وبيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع المزابنة، وبيع المعاومة، وبيع الجزاف، وبيع الحبلة، وبيع الغدوى، وبيع الرجع، وبيع التصرية، وبيع الإعراب، وبيع الخلابة، وبيع الذهب بالذهب سواء كان متفاضلا أم متسوايا، وسواء كان يدا بيد أم مؤجلا، ومثله بيع الفضة بالفضة، وبيع الرجل ما ليس عنده، وبيع المعدوم، وبيع المخاطرة، وبيع العينة، وبيع العبد الآبق، وبيع الحصان الشارد، وبيع الطير في الهواء، وبيع السمك في الماء. وكانوا يبيحون النجش في البيع، والاحتكار، ويجيزون بيع الحمل مستقلا، وبيع الثمر ولما ينضج، وبيع الأخ على بيع أخيه، وسومه على سومه، وتلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي. [المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 14/75-86]

ولهذه البيوع الكثيرة صور عدة، كان أهل الجاهلية يمارسونها، مما يدل على أنه لا قيود في التجارة، وأن رضا البائع والمشتري هو الشرط الوحيد الذي تواضعوا عليه. فجاء الإسلام فقضى على هذه الحرية في البيوع، وقيدها بقيود تمنع الغرر والجهالة في البيع.

وأما في المبيع فقد كان أهل الجاهلية يتاجرون في كل شيء متاح، ولا قيود عليهم في ذلك، فيتاجرون في الخمور وفي الميتة والخنزير والدم وكل ما يستحلون أكله أو شربه أو لبسه. فجاء الإسلام فأبطل هذه الحرية، ومنع الاتجار في المحرمات.

2- وأما التعامل بالربا فقد كان أساسا عند أهل الجاهلية، وأباحوه بكل أنواعه، وانتشر فيهم انتشارا كبيرا، وخاصة ربا النسيئة حتى نسب إليهم من كثرة تعاملهم به فسمي ربا الجاهلية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة عرفة بحجة الوداع: ((وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بن عبد الْمُطَّلِبِ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّهُ)) [رواه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: مسلم (1218)]

وهو المراد بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130].

ونزل فيه وعيد شديد في القرآن حتى عدّ فاعله محاربا لله ورسوله؛ كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279].

قال السمعاني رحمه الله تعالى: والآية في إبطال ربا الجاهلية؛ وذلك أنهم كانوا يدينون الناس بشرط أن يزيدوا في الدين عند الأداء، وكان يقرض الرجل غيره، ويضرب له أجلا، ثم عند حلول الأجل يقول له: زدني في الدين حتى أزيدك في الأجل، فهذا كان ربا الجاهلية وهو حرام. [تفسير السمعاني: 1/281]

ويدخل في الربا: الربا في الطعام، وقد كان شائعًا بين أهل العمود والبوادي بصورة خاصة؛ إذ ليس عندهم دراهم ولا دنانير، فكانوا يأخذون الصاع الواحد مقابل صاع وزيادة، والزيادة رباه، حتى يكون قفزانًا كثيرة, فاستغل المرابون أهل الحاجة وضايقوهم بالطلب. ورد أن أحدهم في الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه, فهو ربا مثل الربا في النقد... وسبب هذا التوسع في هذا النوع من الربا، أن العرب كانوا أهل تجارة وأهل زراعة ورعي، ولم تكن العملة من دنانير ودراهم منتشرة بين المزارعين وأهل البوادي، فكانت المقايضة تقوم عندهم مقام العملة. فمن احتاج إلى طعام أخذ من بائعه أو مالكه أو مكتنزه كيلًا بكيل مثله لأجل معلوم, على أن يعطيه زيادة عليه، يتفق على مقدارها. فيأخذ قفيص تمر بقفيص ونصف أو قفيصين، أو أكثر من ذلك، على نحو ما اتفق عليه، يؤديه له من جنس التمر المسلف ومن جودته، فإذا حل الأجل، ورأى المستحق أن يؤخر دينه، على أن يزيد في المال فعل، وكلما أخره زاد في المال حتى يصير أضعافا مضاعفة، وذلك بسبب الحاجة والفقر. [المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 14/112-113]

وبسبب انتشار الربا في أهل الجاهلية تعجبوا من تحريمه، وقالوا {إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} فكان جواب الله تعالى عليهم {وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وهذا الجواب فيه تكريس للعبودية، وتوجيه إلى طاعة الله تعالى؛ فإن الربا وإن كانت صورته تشبه البيع فإن المانع منه تحريم الله تعالى له، كما أن حل البيع إنما كان بإباحة الله تعالى، ولم يكن جواب الله تعالى متضمنا لعلة سوى العبودية، مع أن الله تعالى قادر على أن يجيبهم بعلة تحريم الربا والحكمة منه، وهذا يدحض دعوى الحرية في معاملات الناس التجارية، ويدل على أنها مقيدة في الإسلام بقيود جاءت في الكتاب والسنة، وأن واجب المسلم التقيد بهذه القيود سواء أدرك علتها أم لم يدركها.

ومن دلائل حزم الشريعة في حسم الربا وإنهائه على الفور أن ما تم التعاقد عليه قبل التحريم بطل بنزول التحريم؛ فالمكاسب الربوية موضوعة، وليس للدائنين إلا رؤوس الأموال، وبرهان ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]

3- وأما القمار فكان من مكاسب أهل الجاهلية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الميسر: القمار، كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله. [رواه الطبري في تفسيره: 2/358]

وقال البغوي رحمه الله تعالى: الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسرا لأنه يجزأ أجزاء. [شرح السنة: 12/384]

وقد قامر بعض المسلمين في أول الإسلام قبل التحريم، وذكر العلماء قصة قمار أبي بكر رضي الله عنه مع المشركين في تفسيرهم لأول سورة الروم. [رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب: 5/344]

ونزل تحريم القمار مع تحريم الخمر في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91].

ورغم أن المشركين أباحوا القمار، وكان منتشرا فيهم فإن أناسا منهم حرموه على أنفسهم، ولم يقامروا، وذكر أهل الأوائل أن أول من حرم القمار من أهل الجاهلية الأقرع بن حابس التميمي. [الأوائل للعسكري: 20]

ولم يعب المشركون عليه تحريم ذلك على نفسه، ولم ينقص مقداره عندهم بسبب ذلك، بل رأوا أنه حر في ماله وطريقة حفظه وكسبه وإنفاقه. وقد ذكر المؤرخون للتاريخ الجاهلي أن الأقرع بن حابس كان يحكم العرب في كل موسم، وكانت العرب تتيمن به. [المعاني الكبير: 113]

وبما سبق عرضه يتبين أن ما يدعو إليه الليبراليون هو عين دين المشركين الذي أبطله النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كفار العرب قد سبقوا الثورة الفرنسية إلى تقرير الحرية الشخصية، وحرية الفكر والرأي، والحرية الاقتصادية. والله الموفق.

موقع المنبر ،،،

رابط هذا التعليق
شارك

من فضلك سجل دخول لتتمكن من التعليق

ستتمكن من اضافه تعليقات بعد التسجيل



سجل دخولك الان