روفو قام بنشر January 27, 2004 ارسل تقرير قام بنشر January 27, 2004 عبد الرحمن منيف كتب ملحمة المكان العربي ومنطلقه قراءة الواقع عبر مرآة التاريخ عبده وازن لم يكد الروائي عبدالرحمن منيف ينهي السبعين من عمره حتى وافاه الموت صباح أمس في دمشق, المدينة التي كانت ملجأه الأخير, بعد حياة ملؤها التنقل بين بلد وآخر. كان عبدالرحمن منيف روائياً عربياً بامتياز. وكان يأنس كثيراً للصفة العربية التي اطلقت عليه وعلى تجربته الروائية الرحبة. فهو الذي ولد في عمّان (1933) من أب سعودي وأم عراقية ما لبث ان انتقل الى بغداد ثم الى القاهرة فإلى دمشق فبيروت... مروراً بعواصم غربية أمضى فيها أوقاتاً طويلة. ولم يكن منيف ليشعر بالغربة في اي مدينة عربية, هو القومي العربي الذي التزم فكرة "البعث" فترة غير قصيرة من حياته, بل كان يلج الحياة السياسية في كل مدينة معتبراً نفسه ابن هذه المدينة بالروح والقلب, ويناضل في صفوف ابناء تلك المدن, سياسياً وقومياً ووطنياً... وكان لا بد من ان ينعكس الانتماء السياسي والقومي لمنيف على أعماله الروائية. فإذا بها تتخطى الاقليمية الضيقة, لتخاطب الانسان العربي حيثما كان, منفتحة على الخريطة العربية, مشرقاً وخليجاً. وإذا بالمكان لديه فسحة مشرعة على فضاء الصحراء وهواء دجلة والفرات وبردى والاردن... روائي عربي يعالج هموم الانسان العربي, السياسية والاجتماعية والوجودية, وقضايا المثقف العربي المضطهد والمقموع, والازمات المتلاحقة التي حلت على العالم العربي والهزائم التي توالت منذ النكبة حتى النكسة وما تلاها من مآسٍ في الحياة العربية. وإن كان منيف بدأ واقعياً في روايته الاولى "الاشجار واغتيال مرزوق" (1973) فهو ما لبث ان فتح نافذة على التاريخ, فكتب الكثير من الاعمال ذات الهم التاريخي. الا انه لم يلجأ الى المادة التاريخية ليكتب روايات تراثية بل سعى الى قراءة الواقع عبر مرآة التاريخ, مستخلصاً العبر الكثيرة التي تخدم الانسان المعاصر. عاد منيف الى التاريخ ليفضح الواقع في ضوئه, وليكشف الكثير من المعالم المجهولة او المتجاهلة. وليس غريباً ان تكون عودته هذه شبه "اشكالية" كونها ارجعت الى المعترك السجالي مفاهيم عدة ترتبط بالانسان والبيئة والجماعة. ولعل اللافت في مسار منيف تأخره في دخول عالم الرواية. فهو أصدر روايته الاولى "الاشجار واغتيال مرزوق" في الاربعين من عمره, وكان أمضى مرحلة الشباب مناضلاً سياسياً وكاتب مقالات و"رفيقاً" بعثياً وقومياً عربياً. وليس مستهجناً ان يأتي منيف الفن الروائي من الالتزام السياسي والبعد الايديولوجي, لكن السياسة والايديولوجيا لم تهيمنا على نزعته الروائية ولا على فنه السردي. فكان ماهراً في نسج عالمه وشخصياته وفي حبك الوقائع والدمج بين الوثائق التاريخية والتخيل الخلاق. واستخدم كل ما توافر من تقنيات روائية وعناصر سردية: كفن الراوي ولعبة الضمائر والحوار والحوار الداخلي والتوازي والتقطيع الزمني والمشهدي... لكن الروائي المترسّخ في الادب العربي لم يشأ ان يغالي في التجريب, مثلما فعل بعض الروائيين الذين جايلوه, بل اصرّ على ان يكون اصيلاً في تجربته, حديثاً ولكن عبر رؤية خاصة الى الحداثة, الحداثة البعيدة عن التصنع والشعار والزيف. ومَن يقرأ رواياته الكثيرة بدءاً بـ"النهايات" و"قصة حب مجوسية" وانتهاء بخماسية "مدن الملح" وثلاثية "أرض السواد", يلتمس لدى هذا الروائي تأنيه في الكتابة واسترساله ورحابة افقه. وأعماله الخماسية والثلاثية هي اقرب الى الفن الملحمي بنَفَسها الطويل والمتوالي وبأحداثها المتواصلة ووقائعها المتداخلة. ومثلما احب منيف التاريخ احب ايضاً سيرة المدن فكتب عن عمّان وبغداد وسواهما كما لو انه يكتب سيرته وسيرة المكان العربي في آن واحد. كان عبدالرحمن منيف روائياً عربياً بل روائي العالم العربي, بهمومه وقضاياه, بأوهامه وأحلامه, بخيباته وآماله. ولم تكن اعماله ذات المنحى العربي الشامل الا صورة عن حياته التي دمجت بين الإقامة والمنفى, بين الانتماء العربي والانفتاح على ثقافات العالم. أفق روائي متحرر صلاح فضل ربما كان ابرز انجازات عبدالرحمن منيف انه انتقل بالرواية العربية الى أفق جديد متحرراً من سطوة الرواد المصريين, بانفتاحه على الحركة السياسية القومية في توتراتها العنيفة, وإمساكه بالعصب الحساس في الحياة المعاصرة في تقديس الحرية وحقوق الانسان. وتمثل كلٌ مـــن "شــرق المتوســط", "والآن هنا" مؤشراً حاسماً لهذه النقلة النوعية في مسار الرواية العربية. ثم جاءت "مدن الملح" ومن بعدها "ارض السواد" لتؤسسا وعياً جديداً بحياة الخليج العربي والعراق وكيفية اختمار مشاريع النهضة وإحباطاتها القاسية في هـذه المنطقـة البكر. على أن اعظم ما يميز منيف هو قدرته على صوْغ ايديولوجية تحريرية خارجة عن الأطر اليسارية والقومية التقليدية ومتناغمة مع المراحل الجديدة في تطورات الوطن العربي, وقدرته الفذة على تحويل الافكار الى صيغ جمالية بالغة القوة والتأثير. وأحسب أنه يمثل احدى الذرى الناضجة في الإبداع العربي المتميز بالصدق التاريخي والالتزام القومي والاتقان الفني في آن واحد, وسيظل إبداعُه حياً في الوجدان العربي, وسيرجع اليه دوماً قراء اللغة العربية. جمال الغيطاني على رغم أنني كنت أعرف المرض العضال الذي أصيب به عبدالرحمن منيف إلا أن رحيله شكل بالنسبة إليّ صدمة, لأن عبدالرحمن منيف ليس كاتباً روائياً فقط ولكنه شخصية ثقافية لها صدقية عالية عند الرأي العام الثقافي والعادي. كان يكفي أن تقرأ مقالاً له او تقرأ توقيعه على بيان أو تسمع بموقف اتخذه لكي تصدقه على الفور وتتأثر به. حافظَ منيف على نقاء المثقف العربي في زمن شهدنا فيه الأعاجيب. وحافظَ على ثوابت أساسية وقناعات لم تتبدل ليس من منطلق الجمود ولكن من منطلق تعبيرها عن موقف إنساني وقومي عميق. الروائي مغادراً بيته الدمشقي هالا محمد لم تكن أوراق النعي عُلّقت بعد على باب البناية التي أقام فيها الروائي عبدالرحمن منيف منذ 1987 في صبيحة وفاته. زوجته السيدة سعاد قوادري وابنتها عزّة تستقبلان الأصدقاء الذين يقبلون تباعاً كلّ لدى سماعه النبأ. فرَدَت السيدة منيف قلبها لتتحدث عن شريك حياتها لمدة 36 عاماً. قالت: "سيبقى بيته وفياً للقيم التي عاش ورحل عن هذه الدنيا وهو يدافع عنها". كان الحزن يدفعها وكأنما الى حثّ نفسها على متابعة الحفاظ على هدوء كان يميّز من يعرف عبدالرحمن منيف. هدوء وداخل, ربما حزين, ومتأمل وأناقة في السلوك والحوار وصلابة في الموقف. فتحت الأوراق وهي تشكر اهتمام الأصدقاء الصحافيين. تحدثت عن شريك حياتها مبعدة حديث العواطف التقليدي برأيها, لتدخل في صلب المشروع المشترك الذي جمعها ومنيف عام 1968. كل شيء في سبيل الصدق في البحث عن الحقيقة. من دون غوايات المكاسب كان يناضل بصدق دفاعاً عن القضية العامة التي أصبحت قضيـة العلاقة الزوجية الخاصة أيضاً. وتصرّ السيدة منيف ان النضال والصدق والقيم هو ما لمّ شملهما. الدفاع عن الديموقراطية والحرية وتقدّم الوطن العربي وتطويره ومحاولة الوصول أو البحث عن مخرجٍ للتخبطات التي يعيشها الوطن. "صفة "الصداقة": جمعت بيننا" تقول. وتضيف: "رافقته في كل رحلاته وترحاله عبر المنافي من دون اي جدال الى ان وصلنا الى باريس. حين قال لي: "سأتفرّغ للكتابة". فوافقته من دون أي مخاوف مادّية. وأنا لست نادمة على أي مرحلة عشناها. على رغم ان الأولاد عانوا صعوبة السفر والتنقل الذي حرمهم الاستقرار. علاوة على ان تلك الفترة كانت شديدة الصعوبة بسبب عدم توافر جوازات السفر. كنا نعتبر ان بحبوحة العيش التي عشنا فيها بفضل كتاباته عادية. وصعوبة العيش عادية أيضاً. وقد تعلّم أولادنا الأربعة عزّة وياسر وهاني وليلى من عمله". وعن الحب, قالت سعاد منيف: "كان حبنا مختلفاً. عشنا ورشة عمل منذ لقائنا حتى الآن. وأنا مرتاحة لأجله لأنه مارس كل ما أحبّ. وكنا متواضعين جداً في شروط وطريقة حياتنا ما زاد إلفتنا". تُعزي سعاد منيف من يتصل بها على الهاتف معتبرة ان عبدالرحمن منيف "كان للجميع, لأصدقائه ومحبيه وليس فقط لبيته". ترك منيف اكثر من أربعة اعمال أدبية من دون إنجاز كامل. كما كان يرغب في كتابة رأيه المتكامل عن أزمة العراق الراهنة. الكتابة الروائية الشاهدة نبيل سليمان منذ البداية أعلن رجب في رواية "شرق المتوسط" عن المشروع الروائي لعبدالرحمن منيف: أن تكون الكتابة شهادة على القتلة وزمنهم, ولكن بالطريقة المجنونة. وكان المشهد الروائي العربي آنئذ في إبّان فورته, بلونه الكلاسيكي وبلونه الحداثي. ولئن كان اللون الأول في أسّ مشروع عبدالرحمن, فكان رهانه على اللون الثاني. ومن هنا لم تصب عبدالرحمن منيف لوثة الحداثة التي تشطب على ما تقدم, أو تنفي الألوان الأخرى, أو تصادر المستقبل بوجدانيتها وأوهامها, كما نرى عند بعض الطالعين الموهوبين في كل حين. ولا ينبغي ان يفوتنا ان عبـــدالرحمــن منيــف لـــم يقــع فـي فخ نرجسية الصــوت الحداثي الروائي العربي, وشرنقته المتيســرنة, ولم ينحبــس فـي شهـرة أو فــي نجاح, ولم يحبس التجربة الروائــي فــي قفــص الشعــرية (من الشعر) بما يعني لغــة البلاغة القديمة او الجديدة فــكانت له لغات الساردين والشخصيات والمتناقضات والعـلم والعاميات و... والشعر, مما تنطوي عليـه روائيــة الروايـة. أنجز عبدالرحمن منيف مشروعه الروائي الكبير بجمالياته وبقيمه الانسانية الخالدة. عندما خاض منيف تجربة "البعث" محمد جمال باروت في عام 1996 عرّضت عبدالرحمن منيف الى قدر كبير من الاحراج النفسي, حين فاجأته برغبتي ان يسرد لي تجربته البعثية, لأستضيء بها في مشروع كتابتي عن التجاذبات القاسية التي نشأت ما بين القوميين العرب وبين البعثيين بعد الانفصال السوري "الآثم" عن الجمهورية العربية المتحدة. لم يجد الراحل الكبير ازاء روح العلاقة الودودة التي تربطنا, والتي كانت تعززت اكثر فأكثر في تعاوني معه بتأمين بعض المصادر النادرة عن تاريخ العراق العثماني, كخلفية مكتبية للمشاريع الروائية التخييلية المنشغل بها, مفراً من الاستجابة لسرد هذه التجربة. صورة منيف البعثية في السرد المستعاد, هي صورة البعثي اليساري, الذي بات عضواً في القيادة القومية للحزب, وكانت نقطة البداية في السرد الذي يهمني, هي المؤتمر القومي الخامس, أو ما يعرف في الحوليات بمؤتمر حمص الذي عقد في عام 1962 لتقرير موقف موحد من الانفصال واستعادة الوحدة. في هذا المؤتمر كانت النسبة قريبة من التعادل بين ما كان يسمى اليسار وبين القيادة التاريخية, وكان منيف في قلب الاتجاه اليساري, ويعتقد في لحظة السرد المستعاد انه كان ممكناً لهذا الاتجاه اليساري ان يطور الحزب بغير ما تطور إليه بعد مغامرات الانقلابات. كان منيف واضحاً قاطعاً في ما يسمى مجلس الحزب في برمانا بلبنان, الذي كان تحضيراً للوثوب على سلطة "الانفصاليين" المترنحة في دمشق, إذ كانت القيادة القومية ومجلسها يتابعان ما يجرى في دمشق لحظة فلحظة, من تحضيرات الانقلاب "البعثي" الذي تصدره العسكريون بالتعاون مع وحدويين (ناصريين) ووحدويين مستقلين. كان البعث قد أطاح قاسم دموياً في العراق قبل شهر بالضبط من اطاحته سلطة الانفصاليين في الثامن من آذار (مارس) 1963. وفي كل من الانقلابين, كانت شهادة منيف مرة وحاسمة في قساوتها. في تجربة العراق كانت عملية أو محاولة ترحيله في سياق صراعات الرفاق التي لا ترحم, وفي سورية على رغم تركه العمل الحزبي في شكل يائس ومبكر, حاسماً ان طريقه ليست هذه الطريق الموحلة. كان البعض يحاول استثمار العلاقة معه وتوظيفها. سألته عن مدى صحة واقعة أو اتصال نَسَبَها اليه تقريرٌ مؤتمري "سري" بعثي في عام 1964 من ان جماعة حافظ الأسد يتصلون به, بأن ذلك ليست له أي صحة, ومن قبيل المزاودات التقليدية في ذلك الوقت, ولم يحدث مثل ذلك, لكنه بحكم الأمر الواقع كان يعرف الجميع ويعرفه الجميع. تجربة منيف الشاب البعثية شديدة المرارة والانتكاس, وعلى رغم انها كانت قصيرة, غير انها تمت في منعرج من اخطر منعرجات البعث والمنطقة. لقد قطع منيف في شكل مبكر جداً معها, الى الدرجة التي تحفظ وكان لا يزال حتى لحظة رحيله على التعريج بها, كان يسرد نزولاً عند رغبتي وليس حباً بالسرد وقال لي مرة بعد ان سألته ان يكتب رأيه بتجربة الحزب في تلك المرحلة: قال لي اكثر من صديق ان اكتب عنها, لكنني لست متحمساً لذلك ابداً. وأتذكر الآن حرفياً وبأمانة تامة تعبيره القاتم القاطع "تاريخ وسخ". وجه مشرق للأدب السعودي منصور الحازمي عبدالرحمن منيف فقيد الأمة العربية جمعاء, وفقيدنا نحن السعوديين بصفة خاصة, ورحيله خسارة فادحة لنا جميعاً وتزداد فداحة رحيله على الأدب المحلي. ففي الواقع استطاع منيف ان يخرج الإبداع السعودي إلى العالم العربي. فعلى رغم رحيله المبكر عن بيئته السعودية إلا انه ظل يحن دائماً إلى مسقط رأسه, ودليل هذا الحنين ما سطره في خماسيته (مدن الملح), ففيها كان يتذكر البيئة الاولى التي انجبته. ولا شك ان الاعمال الروائية العظيمة التي كتبها مصدر مفاخرة لنا في العالم العربي, فمنيف قام بنقل الصورة الابداعية الحقيقية التي يحملها ابن هذه البيئة... فكتاباته ستظل نبراساً يشير الى إبداع ابن هذه البيئة, مع الإشارة الى أنه انتقل بإبداعه إلى خارج الحدود فاستطاع أن يظهر إبداع الشخصية السعودية في المجال الأدبي. واقتفى أثره بعض المبدعين السعوديين وإن لم يغادروا بيئاتهم ولكنهم نقلوا إبداعهم من خلال الطبع في الدور العربية الكبيرة واستطاعوا إيصال الصوت الإبداعي السعودي. وظهور منيف كأهم الأصوات الإبداعية العربية كلفه أن يغرس قامته في بيئة غريبة عنه ويجاهد لإيصال صوته المتفرد من خلال ما كتب ليغدوا صوتاً عربياً شاهقاً... رحم الله منيف واسكنه جناته. لقاء لم يتم ... بيننا عبده خال تعرفت بعبدالرحمن منيف في وقـت مبكر من عمري, وجدته في "شرق الوادي" فأرعبني كثيراً. وحين انهيت قراءة تلك الروايـة أقسمت أن لا اكتب حرفاً. كان التعذيب يقف بين الجلد والعصب, وفروة رأسي تأخذها مخالب القط الذي تفرد بها في كيس ضم الرقبة وقط يحاول النجاة من عصا المحقق فلا يجد إلا رأساً يعيث فيه فساداً بحثـاً عن لحظة أمان. سال الدم مــن ذاكــرتي بغــزارة وحــين أفقت من ألم التعذيب كان بطل الرواية مجذـوباً للعودة الى الزنازين الرثة خشـية على اخته واسرته الصغيــرة.. منــذ ذلــك اليـوم اكتشفت عذاب الكتــابة وانــها يمكنــها ان تسلمك الى طريق ليس بالامــين أو الرحــيم. وفي "مدن الملح" كنت ابحث عن تاريخ سري وفي "الاشجار واغتيال مرزوق" وقفت على منحنيات جماليات الكتابة.. كنت أقول دائماً ان منيف ارتضى ان يظللنا بفيئه وهو بعيد عنا, فكيف ارتضت تلك الشجرة ان ترحل بجذورها وتزودنا بثمارها الناضجة من على بعد؟ كان هذا السؤال رومانسياً وفجاً. تكتـشف هذا حين تدخل الى دهاليز الكتابة بينما خناجر مسننــة تلامــس جســدك وتحذرك من مغبة أن تقول ما يقال. حينها اكتشــفت لماذا يرحل الانقياء الى جهــات الارض وربما يقدرون على الاشارة او الايماء بأن ثمة خناجر مدببة تقف بين رأس القلم والورقة.. هكذا رحل منيف.. رحل غريباً كما عاش, هناك في الغياب, بعيداً عن المكان, كان يخرج دمه لآلة صماء تأخذ دمه لتصفيه من ملوحة الارض وتعيده الى جسده المنهك ليتذكر عمق الوحشة والبعد. هل كان على اديب فذ مثله ان يموت غريباً بعيداً عن رحم الارض التي انجبته؟ هل كان علينا ان نتبادل اخباره وهو يقتعد ارضاً تبعده عنا وتبعدنا عنه؟ ما الذي كان يمنع ان يكون تحت سماء ارضه وفي حضن وطنه, سيذكر التاريخ ان منيف ولد ورحل ومات غريباً.. وترك رسائل متبادلة في "شرق المتوسط" وفي "عالم بلا خرائط", سيترك حروفاً تشير الى عذاب كان بالامكان ان يستريح منه في آخر ايامه.. هل كان ليحدث هذا؟ في الشهرين الماضيين كــان الصديــق محـمد القشعمي يرتب لي موعداً في دمشق لرؤية منيف, وحــين حــان المــوعد تراجعــت ولم أرد رؤية بطل "شــرق المتوســط" ولــم أرغب في رؤية مخالب القطط التي نهشت وجــهي حيــنما كنت اتعرف عليه لأول مرة.. اكتفيت برؤية وجهه عبر الصحف ومن خلال الالسن التي تروي عن حاله.. لم أشأ ان أراه معذباً مرتين: مرة في الكتابة ومرة بفعل المرض. رحل منيف وبقي منيف.. بقي عموداً لـ"مدن" كان شاهداً على قيامها... المؤلم ان يرحل غريباً كما عاش غريباً, هذا الروائي الذي جدد فن الرواية العربية وساهم في إدخالها مرحلة الحداثة من غير ان يتخلى عن جذوره العربية. سيبقى بيننا بما ترك عبد الله الغذامي يبدو في الآونة الأخيرة صرنا نفقد اجزاءً من ذاكرتنا الجمعية, فإدوارد سعيد إلى إحسان عباس وفدوى طوقان ومحمد شكري والآن عبدالرحمن منيف, وكل هذه الاسماء هي أسماء سجلت العقود الماضية الأخيرة من حياتنا كل بطريقته, وحملت صورة من صور الضمير الكلي للأمة ثقافة ووجداناً. وفي ما يخص عبدالرحمن منيف فهو الروائي الذي حاول أن يقدم الجزيرة العربية بإنسانها وظروفها وكان هو اول صوت سعودي يظهر عربياً عبر الرواية تحديداً وقد جعل من نصه الروائي شهادات عن مرحلة من التغير الشديد سياسياً واجتماعياً. ولم يجد حرجاً من المزج بين السياسي والفني وربما آثر السياسة في كثير من الأحوال مما جعل له خصوماً عديدين ولكنه مع هذا فقد ظل ضميراً جمعياً وأديباً وفير العطاء وتحمل كثيراً من العناء لكي يصمد على رأيه واتجاهه ودفع ثمن ذلك مادياً ولكنه كسب تأييداً معنوياً عريضاً عبرت عنه مبيعات كتبه وانتشارها بين القراء. وسيظل عبدالرحمن منيف علامة عميقة وقامة عالية في الذاكرة الثقافية وسيترك فراغاً كبيراً في مجال الرواية السياسية ذات التوجه الملتزم, وسيظل احدى علامات مرحلة الستينات بما تحمله تلك المرحلة من قيم وطنية وسياسية اصابها كثير من التكسر في مرحلة ما بعد ذلك ولكنها ستظل واحدة من أسس التكوين الثقافي للانسان العربي ومرحلة الحداثة. والوقوف على هذه التجربة سيكشف مقدار ما تركه منيف فينا ولم يكن رحيله ليأخذ هذا وإنما رحيل كاتب سيبقى بيننا بما ترك. رمز الانسان الأصيل معجب الزهراني عبدالرحمن منيف رمز للانسان قبل وبعد ان يكون كاتباً روائياً متميزاً. أزعم انه احد القلائل الذين ظلوا طوال حياتهم يعانون المرارات فيما هم يبحثون عن أثر ولو محدود لقيم الحرية والكرامة والعدالة في لحظة ما من حياته يبدو أنه اكتشف وعورة بعض الطرق ومتاهة المسارات الاخرى فاتجه في طريق الكتابة الذي يستطيع الانسان وحده ان يبدأه ويواصل المضي فيه. كتاباته الاولى صرخات ألم وبحث عن ما ينقذ في الانسان بقايا انسانية محطمة, وأزعم أن الصرخة بلغت ذروتها في شرق المتوسط وفي مرحلة تالية يبدو ان تاريخ التحولات الشقية هو الذي جذبه فكتب خماسية مدن الملح ثم أرض السواد وفي لحظة استراحة كتب ذاكرة مدينة الذي يبدو لي انه واحد من أهم النصوص التي انجزها عبدالرحمن منيف. في القاهرة حينما فاز بأول جائزة عربية مخصصة للرواية اشتعلت القاعة بالتصفيق كما لو ان هـذا الكـاتب الانسان التراجيدي حصل على ما يمكن ان يخفف من تراجيدية كتابته وحياته. أعتقد ان منيف وهذا ما قلته له حينما قابلته في باريس اوائل الثمانينات سيظل أول كاتب يعيد تشكيل الجزء الأهم من ذاكرة الجزيرة العربية الحديث أعني هذه الذاكرة التي تخلخلت بفعل ثروة النفط التي كان يخشى أن تأكل ابناءها وتترك لهم رمالاً لا يحسنون التعامل معها مستقبلاً, شخصياً اشاركه هذا القلق وبخاصة حينما أرى هذا النفور الحاد والعنيف احيانا لكل ما يمت بصلة الى الفكر العلمي الحديث والى الفكر الانساني الحديث في مجتمعنا. عودة عوليس من مدن المنفى أمينة غصن أي ملاذٍ تفدُ اليه بروح تحكم عليها بالنسيان؟ فهل كنت من صفوة فكرية؟ أم من بنية جماهيرية؟ أكنت سهل الاستمالة أم كنت حالة بدوية تأبى الضيم وسيطرة الغادرين؟ فالوطن منك اذ لم تبطله غربتك, كان له من نزيف القلم وسواده خماسية مدن الملح بما فيها من أعماقٍ تضج بآبار المياه والكوثر, فيضج اصحابها بها تعباً لئلا يحلو الملح فيها, ويؤاخي الماء. عبدالرحمن منيف إذ كتب "التيه" افتتح خماسيته بما كان يمنع التيه: "إنه وادي العيون" الذي حجرته مدن الملح ولم تعد اليه. فحيث يغيب المكان عن المعمار الروائي, تنبت جذور القص في السماء, وتنتفي بطولة متعب الهذال الذي كان ينتمي الى وادي العيون بغير سواه, لأن الوادي وحده يشحذ الهمم وينهض بها. فالمكان شرط الوجود, والولادة, والموت. فهو كما قال فيه آلان روب غرييه: موضعٌ خالٍ من الدلالة, لأنه وجود مطلق, ينوب فيه المقيم, والوافد, والغريب الذي نزل من الأرض تربة, ليست منها جبلته, فأخطأ الاستيطان, وأخطأه ضوع تراب يستجديه, فينكره. فالمكان في خماسية منيف ليس وطناً سريالياً ولا تكعيبياً ولا دادائياً ولا خيالاً خرافياً, وإنما هو رمش, يطمئن العائد اليه في عري الروح منه, وكأنه في طمأنينة ليس مثلها الا طمأنينة رحمه الأول. فالمكان كالقدر يأتيك في غفلة ومن دون استئذان, فتحضر فيه, ويحضر فيك, تخونه فينتظرك, تنساه فيحن إليك, تبتعد عنه فيناجيك, تخليه فيبقي على أمكنتك ومطارحك وملاعبك وصباك. المكان / الوطن هو الصامت الملعون الذي تحمل وشمه, ولهجته, تتحدث به فتزداد في البعد عنه اغتراباً ووحشة. هو فيك كعهد اللحم ينغرز في أوجاعك, وينغرز في زمنك, ويتحول بك الى أسطورة من أساطير عوليس الذي كان يطوّف في المجهول. فعبدالرحمن منيف في "شرق المتوسط", وفي "أرض السواد", شاء ان يكون له ما كان يحسبه فاوست عهد دمٍ يوقعه مع مفيستو, الشيطان الذي اخذ منه الروح ليمنحه المعرفة والخلود, فإذا بـ"شرق المتوسط" وبعدها "أرض السواد" تنتعل عمارات "مدن الملح", وبناها فتعود كما عاد مفيستو بفاوست الى حتمية لا مفرّ منها هي حتمية جلده الانساني, ووحشته الانسانية. عبدالرحمن منيف إذ يغيب تحضر "مدن الملح" لتلفه بكفن يمنع عنه التعفن أو الفساد, وتعود به الى "وادي العيون" بعد كثير من التيه والغربة, ويتم العناق بينه وبين متعب الهذال الذي بقي معلقاً في حدود الغيم والريح ينتظر عودة الغائب, ليكفنه بانتظاره!! أرض الرواية الجديدة فاروق عبد القادر تابعت عمل عبدالرحمن منيف كُله بدءاً من روايته المدهشة "الاشجار واغتيال مرزوق" التي صدرت العام 1974. بدأ منيف الكتابة وهو فوق الاربعين وخلال رُبع قرن اصبح أهم روائي عربي خصوصاً بروايتيه "مُدن الملح" و"أرض السواد". يمتزج في اعمال عبدالرحمن منيف الهم العربي الشامل إذ تحالفت شروط موضوعية وشخصية جعلته "الروائي العربي". فهو من أب من نجد وأم عراقية. وكانت نشأته الاولى في عمان وتنقل في عواصم عربية عدة قبل ان يتزوج من سورية ويقيم في دمشق. انه عربي شامل حتى على مستوى حياته الشخصية, وعندما اتخذ قراره بالتوقف عن العمل السياسي قرر في الوقت نفسه ان يستمر في النضال من خلال الرواية. كتب الرواية من ارض جديدة على الرواية العربية تماماً وتجسد ذلك خصوصاً في روايته "سباق المسافات الطويلة" التي تدور احداثها في ايران. كان مولعاً بالصحراء والاماكن التي تدور فيها احداث روائية هي على الحدود الفاصلة بين الحضر والبادية, فهو مثلاً في الجزء من "مدن الملح" استغل العالم القديم من العدم وتصدر قضية النفط, كان مؤهلاً تماماً لذلك على الاقل بحكم دراسته الاكاديمية. علاقة ملتبسة ورحيل مر سعد البازعي لنا في المملكة العربية السعودية علاقة ملتبسة بعبدالرحمن منيف. لكننا في كل الأحوال لا نملك إلا أن نسعد بتلك النسبة التي تؤكدها أعمال له أعاد من خلالها قراءة التاريخ الحديث للجزيرة العربية برؤية معمقة وخيال خصب. على أننا ندرك أن منيف في نهاية المطاف كاتب عربي ينتسب لا إلى العروبة وحدها وإنما إلى الانسانية جمعاء, وان افتقدنا شخصه فلن نفتقد اضافاته الكثيرة للادب العربي. المؤلم هو ان منيف على رغم ذلك كله رحل بصمت وتحت وطأة المرض من دون ان يحظى بالاهتمام والرعاية التي يحظى بهما من هم أقل منه بكثير. المقالات نقلا عن الحياة
الملتاع قام بنشر January 27, 2004 ارسل تقرير قام بنشر January 27, 2004 شكرا أخ روفو على هذا النقل لهذا الروائي المبدع
)مسفهل) قام بنشر January 27, 2004 ارسل تقرير قام بنشر January 27, 2004 كالعادة .. ياروفو ... مميز كتابة ونقل
Recommended Posts
من فضلك سجل دخول لتتمكن من التعليق
ستتمكن من اضافه تعليقات بعد التسجيل
سجل دخولك الان